أعتقد أنه من الممكن أن نسلم بوجود تأثير لا يمكن إنكاره سلبا و إيجابا لما "وقع" على ما هو "واقع" و على ما "سيقع" أيضا من أحداث و توجهات في الساحتين السياسية و الإجتماعية المصرية بل و العربية. ليس ذلك عجبا بين الأمم, فمصر مثل غيرها يحكم حاضرها تاريخ ما من التجارب السيئة و الجيدة التي تحدد نوع الخبرات المتراكمة لدى العقل الجمعي للأمة و بالتالي تحدد هذه الخبرات ما هو ليكون من قرارات و توجهات و دوافع لدى العامة و السلطة الحاكمة
المشكلة هو في نسبة هذا التحكم.... في بلاد تقع على يسارك حين تنظر للخارطة, فإن الماضي على أهميته ليس الحكم الوحيد لما يحدث و ما سيحدث. الماضي ليس إلا عنصرا من العناصر... الخبرة ليست إلا أداة من الأدوات يستكملها الإبداع و المبادرة بل و المغامرة بما هو جديد و أحيانا غير مطروق لخلق تجربة إنسانية فريدة و جديدة و مختلفة عما سبق
في بلادنا, الخبرة و الأقدمية هي العنصر الحاكم. الإبداع سيء السمعة و في مكان ما بين الشك و التحريم... أما المغامرة فهي طبع الأشقياء... لذا لم أجد غرابة في تحليل الواقع المصري الكائن بسرد 3 أعمدة أساسية من الأحداث التي وقعت في ماضي الوطن و لا تزال حتى الآن هي عنصر الحسم و القول الفصل في تجربتنا السياسية و الإجتماعية في عالم اليوم
أرى أن هذه الحوادث الثلاث هي صلب المسألة التي نقاسيها نحن - المواطنين المهتمين بالشأن العام كمؤثر على الشأن الخاص قبل أي إعتبار أخر- و الذين أزعم أنهم في غياب الهستريا و التوفيقعكاشية و الأحمدموسوية و اللطميات الإخوانية ربما تكون هي النسبة الغالبة
هذه الحوادث الثلاث هي ماض مضى بحلوه و بقى منه مره و يأبى -و يأبى معه البعض- أن يمضي بنا و نمضي عنه لتجربة أكثر حداثة و تنوعا
أولا: ثورة/إنقلاب/حركة مباركة في 23 يوليو 1952
سمها كما شئت, هذه الحادثة التي وقعت في 23 يوليو 1952 و نتج عنها سقوط حكم الأسرة العلوية التي حكمت مصر منذ 1805 حتى تاريخ سقوط فاروق الأول -و هو النهاية الفعلية أو إلغاء الملكية عقب ذلك التاريخ بعام- هي من الحوادث التي لازالت تؤثر بعمق بالغ في مصر اليوم. و رغم مرور ما يزيد عن 63 عاما على وقوعها ووفاة كل الذين قادوا الحركة أو تداخلوا في أحداثها المباشرة إلا أن أثرها لا زال قائما و لا تزال بقايا دولة يوليو تحكم مصر.
قامت دولة يوليو على أساس إيديولجي من معاداة الوضع القائم في مصر في عشية قيامها.... فقد عادت يوليو النظام الملكي الذي كان قائما كنموذج للنظام السياسي و عادت معه التعددية الحزبية القائمة حينئذ و قامت عقب قيامها بإلغاء الأحزاب. كما عادت النظام الإجتماعي أيضا القائم على الطبقية و ملكية الأراضي و تعدد الأعراق و الجنسيات فأقرت مجموعة من القوانين التي ضمنت إعادة هيكلة النظام الإجتماعي المصري مثل قوانين الإصلاح الزراعي و التأميمات و الحراسات و القوانين الإشتراكية كما سعت و لو خفية للتخلص من العنصر الأجنبي و اليهودي فيما بعد. و قد كان النظام القائم قبل يوليو هو نتاج مشوه نوعا ما و غير قابل للإستمرار في كل الأحوال في عالم أصبح حينئذ -عقب الحرب العالمية الثانية- كثير الحركة و التغيير. تشوه النظام القائم على ملكية إحتكارية بالأساس -نظام التاجر الأوحد و الصانع الأوحد و الزارع الأوحد- و لم يعد قادرا على الوقوف في وجه مد شعبي يطالب بملكية دستورية تطورت مطالبه و تبلورت في ثورة 1919 و أنتجب ما عُرف بدستور 1923 ليصبح الشد و الجذب الواقع حينئذ بين القوى الوطنية ممثلة غالبا في حزب الوفد و بين السراي هو سمة 3 عقود لينتج "شبه" ملكية دستورية أوتوقراطية عجيبة و غير قادرة على إدارة الشأن السياسي بكفاءة... كان سقوط النظام الملكي مسألة وقت
و رغم التغييرات التي أقامتها حادثة 23 يوليو, كان الواقع الأهم الذي خلقته هو تحويل الجيش المصري الحديث الذي نشأ مع نشأة الأسرة العلوية و على يد مؤسسها من لاعب ما في المسرح السياسي إلى اللاعب الوحيد مع تشميع المسرح السياسي نفسه... أصبح الجيش بالفعل هو الدولة و الدولة هي الجيش... و أصبح قادة الجيش و ضباطه هم الوزراء و السياسيون و المحافظون و رؤساء الهيئات و الشركات و لاحقا رجال المال و الأعمال...
رغم وفاة أعضاء مجلس قيادة الثورة تباعا إلا أن الواقع الذي خلقته حركتهم جعل الجيش ما بين اللاعب رقم واحد في مسرح السياسة المصرية في بعض الأحيان إلى اللاعب رقم واحد و إثنان و ثلاثة في أحيان أخرى كما هو الآن.
ليس من المنطقي بالطبع إعتبار أن دولة يوليو لازالت قائمة كما هي, فدولة يوليو تعرضت لضربات قاصمة, أضعفتها و أوهنتها كثيرا و لكنها لم تقتلها بعد... أهم هذه الضربات كانت برأيي فشل الوحدة السورية ثم حرب اليمن و هزيمة 67 و إغتيال السادات و 25 يناير.... ربما - أقول ربما- كان من الممكن أن تموت دولة يوليو السياسية و الإجتماعية لو نجح مخطط الطفل المعجزة جمال مبارك و تمكن من إعتلاء سدة الحكم بطريقة غير عنيفة في السنوات الماضية -بفرض عدم وقوع 25 يناير-... غالبا كان ذلك سيكون مسمار نعش دولة يوليو الأخير كأوتوقراطية عسكرية محافظة لندخل عهد أوتوقراطية مختلفة ربما ما كان ليشبهها شيء إلا لو كانت مثلا تولت إيميلدا ماركوس حكم الفلبين!!
25 يناير - التي يقول البعض بأنها أنهت دولة يوليو و هي بالتأكيد كانت تهدف لذلك- منحت برأيي و دون أن تقصد دولة يوليو قبلة حياة و إشترت لها وقتا على جهاز التنفس الصناعي... فهي رغم أنها طعنة في قلب دولة يوليو إلا أنها لم تنجح بعد في الإجهاز عليها بل مدت في عمرها سنوات قلائل... و لعل هذا الفضل اليسير هو ما يدعو الديكتاتورية السياسية الحالية لإبداء شكر مر تجاه يناير في المحافل العامة و على شاشات التلفزيون ثم تستعيض عنه لاحقا ب30 يونيو!!
ثانيا: هزيمة 5 يونيو 1967
تستطيع أن تسميها نكسة إن كنت تفضل المسميات "الشيك" و لكنها كانت هزيمة ساحقة - بكل أسى- لجيش لم يتمكن حتى من أن ينال فرصة الحرب. هزيمة 1967 هي العنصر النفسي الأكثر تأثيرا في الشخصية المصرية برأيي في القرن العشرين و مطلع الحادي و العشرين الذي مر منه عقد و نصف...
لم تكن الهزيمة نفسها هي المشكلة, فقد هُزمت الجيوش العربية مجتمعة و منها المصري في 1948 و لم يكن لهذه الهزيمة تلك "الكسرة" التي أوقعتها في النفس و الوجدان و ما ورائهما حرب يونيو. كانت المشكلة في سقوط من علٍ ساعدت فيه و مهدت له القيادتان السياسية و العسكرية لمصر في ذلك الوقت في جريمة من أكبر الجرائم التي إرتكبها حاكم لمصر في حق أهلها على كثر هذه الجرائم. أخذت هذه الهزيمة جيلا كاملا من الشباب و الرجال و النساء و قذفت بهم في صفوف الحيرة و التردد و عدم التصديق و مراحل الحزن الخمسة الشهيرة... فمنهم من هاجر للخارج و منهم من هاجر للداخل و منهم من كفر بكل شيء و منهم من تشدد في كل شيء و بدا أن مصر في عشية تلك الحرب الخاطفة صورة مهزوزة من بلد آخر.
كانت هذه الهزيمة - التي لازالنا نعاني من أثار من عانوا منها رغم حرب أكتوبر الرائعة- من عناصر الماضي الحاضر التي حددت العقيدة العسكرية للجيش و الشعب و حددت العدو بوضوح - حتى إهتزت صورة العدو مؤخرا- و ضربت مشروع دولة يوليو ضربة قوية
كانت هذه الحرب و تلك الهزيمة برأيي مؤسسا أصيلا للحادثة الثالثة
ثالثا: إعادة تأسيس الجماعات الإسلامية في السبعينيات
في السبعينيات إتخذ الرئيس "المؤمن" محمد أنور السادات قرارا في ذلك الوقت بعودة الأحزاب ليؤسس ديكورا صممه و أسسه في سبيل رؤية راودته لمصر ما بعد حرب أكتوبر... فقام بإخراج عدد من قادة الإسلام السياسي من السجون من الإخوان و سمح لهم بممارسة عمل سياسي مشروط. و هو ما تزامن مع ظهور الجماعة الإسلامية التي أسست شعبية كانت قوية في ذلك الحين على رفض شرعي - من وجهة نظرهم- للسلام مع إسرائيل علاوة على أفكار جهادية تكفيرية تضمن تكفير المجتمع و الحاكم و الدولة - في تخريجات شرعية ساهم في تأسيسها دون شك و بإعتراف الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في مذكراته المملكة العربية السعودية -في نفس الوقت الذي كانت فيه جماعات مثل التكفير و الهجرة و الجهاد تزدهران. أيضا كانت تتأسس في ذلك الوقت - الفترة التي يُعرفها أبناء تيار الإسلام السياسي بالصحوة- الدعوة السلفية بمدينة الإسكندرية على يد محمد إسماعيل المقدم و سعيد عبد العظيم و أخرين الذين خرجوا من عباءة الجماعة الإسلامية منشئين سلفية علمية أكثر سلبية من السلفية الجهادية الأكثر فورانا و عداءا بالطبع للسلطة.
من عجب أن كل من شملتهم الفقرة السابقة و معظمهم أحياء كانوا طلبة في ذلك الوقت في كليات الطب و الهندسة و الزراعة و غيرها و كان أن التقوا بالمخضرمين من جماعة الإخوان المسلمين الخارجين من السجون و لعائدين من الخارج بعد ضربات النظام الناصري ضدهم... لينشأ تيار الإسلام السياسي بفروعه المختلفة التي لازالت معنا حتى اليوم بأفكارها و شخوصها و أحقادها القديمة
كل هذه الحوادث الثلاث تشكلت و تفاعلت بصورة درامية مؤثرة لتخلق لنا واقعا نعيشه اليوم... واقع اختلطت فيه السياسة بالدين و المحبة بالكراهة الشخصية بين أبطال العرض المسرحي الذي نشاهده و لا نستمتع به و لا يحق لنا المشاركة فيه أو الإعتراض عليه
خلقت هذه الحوادث الثلاث مصر اليوم... الأوتوقراطية التي تضرب الثيوقراطية بالدكتاتورية لتعود السلفية الجهادية فتضربها و هكذا دواليك بينما نجتر نحن أحزان هذه و لطميات تلك. و لا مانع من أن نشارك أحيانا نحن اللامنتمين المهمومين بشأن الحياة اليومي العادي هؤلاء في معتقلاتهم أو هؤلاء في هسترياتهم كأي "كومبارس" مخلص في عمله يردد جملته الواحدة التي لا تتغير من بدء العرض حتى يوم الرب هذا "يحيا شخص ما" و "بالروح بالدم نفديك يا شيء ما"
ربما لو أمعنت النظر فلن تجد فارقا أيديولوجيا يذكر بين هذا البطل و ذاك.... هو فقط فارق في الأزياء و المكياج و لكن حتى مؤخرا تشابهت الجمل الحوارية في تكرار ممل لعرض فاشل لم يعد يجذب إلا المجاذيب
لتظل أنت و أنا و من يأتي بعدنا حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا أسرى لماض يأبى إلا أن يذهب و يترك فرصة كانت سانحة لخلق جديد....
فهل ستكون الفرصة سانحة من جديد لخلق جديد بعد أن يعمل ملك الموت عمله في وقت محتوم و يجمع زمرة الماضي الكئيب الذين يأبون الجلوس على دكة الإحتياط و يصرون على أخذ المستقبل معهم ليجاورهم حتى في لحودهم؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق