يخطئ من يظن أن حكومة محلب و رئاسة السيسي هي أول من تصدي أو قام بمحاولة لنزع بلاعة الدعم من شارع الموازنة العامة لما يعرف بإسم الدولة المصرية. فمنذ نهاية الحقبة الناصرية و حرب أكتوبر و توابعها فتوجه الحكومة واضح و إن كان غير معلن في هذا الإتجاه
منذ استقرار الأمر لجمال عبد الناصر و إنتهاء توابع الصراعات الداخلية لرفقاء السلاح بعد 52 و بدا أن النظام الجديد حينئذ عازم على كسب ود الجماهير بقرارات شعبية تعمل على تشكيل وقائع إقتصادية و إجتماعية جديدة, فمنذ قانون الإصلاح الزراعي و مرورا بالتأميمات و القوانين الإشتراكية و إنتهاء دولة يوليو الأولي في 67 بدا أن الدولة تحاول أن تكون طرفا بمعنى "Partner" في العلاقات الإقتصادية و ليس بدورها الطبيعي كمراقب و مشرع و مسًهل "Facilitator and Regulator" فمنذ التدخل في تحديد تسعيرة جبرية للخضر و الفاكهة مرورا بالتورط في تملك و تقديم و إدارة خدمات النقل و المواصلات وصولا للتدخل المباشر في صميم العلاقة التعاقدية بشكل يلغي إرادة الأطراف في العلاقة بين المالك و المستأجر في العقار و الأطيان. إختارت الدولة إقتصاديا لأسباب سياسية أن تكون أصابعها في كافة الشقوق.... و بطبيعة الحال لم تكن للدولة أصابع كافية للشقوق كلها, و لم تكن الأصابع قوية بما فيه الكفاية للعمل اللازم لكل شق
منذ إعادة فتح قناة السويس في منتصف السبيعنيات من القرن الفائت كان واضحا أن مصر مقبلة على إختيارات إقتصادية جديدة لأسباب سياسية جديدة. و كما كان الحال في المرة السابقة و كل المرات الأخرى, لم يكن الإختيار من منطلق إختيار الشعب, بل بإختيار و رؤية فوقية من رأس الدولة. قررت الحكومة أن تنسحب مما كانت قد تدخلت فيه. و كعادة معظم الحكومات المصرية السنية, فإن هناك فارقا كبيرا بين القرارات - و مدى صحتها من عدمه- و بين تنفيذ هذه القرارات و آلياتها الإجرائية . قرار إنسحاب الدولة من دور الطرف لدور المراقب و المسًهل كان صحيحا في رأيي, و لكن آليات تنفيذه كانت مخزية. لم تتوجه الدولة للمخاطب بالقرارات - الشعب- و لكنها اختارت أن تنفذ هذه القرارات من نفسها و بالتدريج الخبيث و ليس التدريج العلمي, بإفساد الخدمة و "تطفيش الزبون" و ليس بتوفير البدائل و استغلال نقاط القوة الموجودة لديها حينئذ. و كان سيف 17 و 18 يناير مسلطا على الرقاب
فمثلا, قررت الحكومة فيما يبدو أن تنسحب من خدمة تملك و إدارة خدمة النقل و المواصلات, فأهملت وسائل النقل العامة إهمالا بالغا قد يكون عمدي. فبعد ما كانت الأتوبيسات العامة و الترام و القطارات هي وسائل تنقل الأثرياء و الدهماء, أصبحت وسيلة تعذيب المواطن عقابا له على مواطنته. و تشدقت الحكومة بتقديم سعر زهيد و ثابت تقريبا لخدمة سيئة و منهارة أقل حتى من السعر الزهيد المدفوع مرسخة مبدأ "على قد فلوسهم". و ترسخت فكرة إمتهان كرامة و مكانة الإنسان المواطن في هذه البلد من خلال حال وسائل التنقل. فمن حمامات تأنفها البهائم إلى مواقف هي ليست أكثر من أوكار للجريمة و المخدرات -تذكر أين وقعت جريمة فتاة العتبة-.
و على الجانب الآخر فتحت تراخيص ما أصبح يعرف في صفوف المصريين بإسم الميكروباص أو المواصلة أو المشروع "لو كنت إسكندراني"... سيارة ميني فان سعة 10-14 راكب تعمل على خطوط منتظمة. فكرة جيدة ظاهريا - و هي جيدة حقا و مطبقة في دول كثيرة- و لكن الحكومة اختارت بإراداتها الحرة جزئيا و بتأثير منظومة فساد منظمة أفضل من تنظيم منتخب ألمانيا الفائز بكأس العالم أن تريح دماغها من الصداع... فتركت الأمر يتحول من خدمة للنقل إلى قطعة من عذاب القبر
عند تفشي الميكروباص في مصر في بدايات الثمانينيات كان الأكبر منا سنا في ذلك الوقت يقولون كما أذكر أن قيادة الميكروباص صنعة من لا صنعة له, فلا هو سائق - بالمعنى المحترف و المحترم للكلمة - لا هو منتمي لأي جهة تحاسبه. فمن أين جاء سائقو الميكروباص؟ جاءوا ممن تم تسريحهم من الخدمة العسكرية بعد الحرب بلا مهارات و لا نقود لعمل شئ, جاءوا من أصحاب السوابق ممن لن يجدوا من يوظفهم و جاءوا من سكان المناطق العشوائية قليلة الموارد كثيفة السكان. كان الميكروباص معبرا بحق عن كل ما هو سئ و قبيح في هذا البلد
لم تكن لتحتاج تدريبا أو عضوية في أي مكان لتصبح سائق ميكروباص, بل لم تكن تحتاج رخصة أساسا فعليا.... ثم لاحقا لم تعد تحتاج حتى سيارة "لا أعتبر الأشياء التي تجري في شارع الهرم و فيصل و طريق المطار بالإسكندرية سيارات أساسا.... الإسم الشعبي لها هو المشرحة"
انسحبت الحكومة من ملكية و إدارة الخدمة, ثم انسحبت من الرقابة عليها... بل إنسحبت من الحد الأدنى من مسؤليتها في حماية حياة مواطنيها الركاب و ركاب السيارات الأخرى
ما علينا...........................
ألقى بك حظك التعس لتكون قائد سيارة في هذا البلد اللطيف.... ستجد سيارات مختلفة من نوع الميني فان بعضها يحمل نمر أجرة, و بعضها يحمل نمر رحلات, و الأغلب لا يحمل نمر من باب توفير النفقات. هذه السيارات تتمتع بالخصائص الأتية:
- يقودها شخص غالبا يتمتع بكل ما يدرس في كلية الشرطة تحت إسم "السمات الشكلية للمجرم".
- لا يستطيع التمييز بين الأسفلت و التراب و الرصيف -إن وجد-.
- يتميز بخصائص في القيادة مستخرجة من نسق حركة الأبقار و الجاموس أثناء خروج قطعانها من المخارج الجانبية للطرق الزراعية.
- سيارته تتمتع بخاصية غريبة نسبيا, حيث تجد على جوانبها أسماء لأشخاص -غالبا من أقارب السائق, مكتوبة لنقرأها نحن لسبب غير مفهوم- علاوة على مجموعة من الحكم الكونفوشيسية التي تجعل عبد الرحمن بدوي و زكي نجيب محمود يبدوان كمطربي المهرجانات.
- لا تتغذى هذه السيارات على الجاز أو السولار, بل على علف البهائم منتجة مختلف أنواع الإخراجات المعوية السوداء من فتحة شرجها المسماة تجاوزا شكمان.
- يتميز السائق سالف الذكر بغباء في أغلب الأحيان, مع ثقل بالنطق و الحركة -ربما يكون نابعا من تعاطي متكرر للمخدرات... أو العلف-
- سائق الميكروباص في الأغلب يعتقد في إمتلاك سيارته قدرات خارقة, فهو يعتقد أن سيارته قابلة للإنضغاط بين سيارتين في مساحة لا تسمح بمرور موتوسيكل, يعتقد أن سيارته تستطيع أن تطير بإرتفاعات مختلفة فوق مستوى البحر.... و هكذا.
- سائق الميكروباص عادل.... فكما يعتقد في قدرات سيارته الخارقة, فهو يعتقد أن سيارتك تمتلك نفس القدرات... و ليس استخدامه المتصل غير المنقطع لألة التنبيه البوليفونيك و و أضوائه المبهرة إلا محاولة منه لإخراج أفضل ما فيك.
- سائقو الميكروباص ينتمون لقبيلة سنجر.... و هي القبيلة التي اخترعت ماكينة الخياطة و بنفس المنطق المستخدم في الخياطة يقود أبناء سنجر في شكل زجزاجي متصل بلا هدف محدد سوى مساعدتك على استخدام و استرجاع ما تحفظ من صفات مجيدة تخص والدي السائق الماهر.
- سائق الميكروباص عاطفي بطبعه, يؤمن بالحميمية الزائدة... يؤمن بالتقارب بين السيارات على المستويات الأفقية و الرأسية و كذلك العرضية و الطولية. كما أنه يحاول دائما الإطمئنان على سائق السيارة التي أمامه عن طريق الإقتراب منه بصورة لصيقة. اطمئن, ليست هذه ميولا شاذة... إنها محبة مفرطة.
- سائق الميكروباص في الأغلب..... كما هو حال أغلب الشعب المصري... متدين بطبعه, و ليست كل تلك الملصقات و الكلمات الدينية على سيارته إلا لأنها تقربه إلى الله زلفى حسب قناعته.... و هو يتوج تغلغل الدين الواضح في تصرفاته بأنه بيسبه لحضرتك في أحيان كثيرة عمال على بطال.
- سائق الميكروباص فنان.... يتمتع بالإبداع و يضج بالقيود.... لذا تجده سائرا هائما على إكصدامه ساحبا معه أرواح معلقة بكف الرحمن في كل الإتجاهات العكسية على الدائري و الصحراوي و الشوارع الجانبية و خلافه..... ليس ذلك من تجرمة لا سمح الله... إنما هي روح الفنان الرافضة للقيود.... "الفنان في المعجم هو الحمار الوحشي"
أعرف أنك قد تكون ترى في هذا الكلام تجنيا.... أو على الأقل مبالغة, و أنه ليس كل السائقين من هذه النوعية و أن منهم من يسعى على رزقه و يحترم غيره...... لن أجادلك,,, بل سأستحلفك بالله إن وجدت هذا الشخص أن تقرئه مني السلام و تأخذ شيئا من أثره لنحاول استنساخ نسخا منه و أن تأخذ معه سيلفي لنثبت لموسوعة جينيس أنه موجود و ليس من اختراعنا
أعد قراءة المقال من أوله.... بالكامل..... ثم استبدل كلمة الميكروباص حيثما جاءت بالتوكتوك...... و ستظل صحيحة.
على فكرة.... أنا لا ألوم السائق على ما ربما تكون استنتجته من رأيي السلبي فيه, ألوم الحكومة و الداخلية -التي يدعي البعض بالمناسبة أن عددا من ضباطها يمتلك بعضا من هذه السيارات و يديرونها بعدد من أصحاب السوابق-
ألوم من رأي ذلك و سكت عنه و استفاد منه حتى صار فوق الحل..... و لا زال يفعل.... و سيظل يفعل